لغة الضاد

إنتقل إلى

 

بسم الله الرحمن الىحيم


الحمد لله الذي أنار لغة الضاد بضياء القرآن ، وله وافر الثناء سبحانه على خَفضِه لرؤوس أعداء العربية بحفظه لآي الكتاب ، والصلاة والسلام الوافرين التامَّين على من أُوتي جوامع الكلِم ، فحضَّنا على طلب العلم فكان لنا به الحظ ، وسلَّ الصارمَ العضب على أهل الشرك فأفاظ به أرواحهم الخبيثة ، وأفاض الله به الخير على كلِّ الأرض.

أمــا بعـــــــــــد

فإنَّ اللسان العربي ليس له ما يقومه إلا كتاب الله الحكيم ثم حديث رسول الله الكريم ، ثمَّ بعد ذلك أشعار العرب الفصحاء ، وخطبهم العصماء ، واستقام الأوائل على ذلك زمانا ، يقوِّمون أنفسَهم ويثقفون ألسنتهم بكتاب الله وسنَّة النبيِّ الأوَّاه ، فكانوا عربا أقحاحاً ، لا يعرفون لحناً ولا لُكنَة ، ومن دخل دينهم من غير العرب قوَّموا لسانه بالثلاثة المذكورة ، ونطق بكتاب الله الكريم كما ينطق به العرب الفصحاء ، فصار عربياًّ فإنما العربية اللسان ، ثم شاء الله أن يذهب الرعيل الأول ، ويدخل في الإسلام من غير العرب الجمُّ الغفير ، ويختلط العرب بغيرهم ، وينشأ كثيرٌ من ناشئتهم في بلاد أعجمية ، دخلها أباؤهم في سنيِّ الفتح الزاهر ، فاختلط الحابل بالنابل ، وفشى اللحنُ ، وأصبحت اللغة الفصيحة لا تطلب إلا من عند الأعراب في البوادي ، وهم نزرٌ يسير ، ومن عموم هذه البلوى سقوط واسطة العقد في لغة العرب من ألسنة كثير من العرب ، فأصبحوا لا يفرقون بين ضاد معجمة ، وظاء مُشالة ، فأمست أبجديتهم لا تحوي إلا سبعة وعشرين حرفا ، وعمَّت البلوى فاستهجن الناس من يفرِّق بين ضاد وظاء في تلاوته لكتاب الله ، فبلغ بذلك السيلُ الزُّبى ، وهذه لعمر الحقِّ طامَّة كبرى ، يتحتم على أهل العلم إنتشالُ الناس منها ، ببيان أن إستبدال الظاء بالضاد عند قراءة القرآن الكريم خاصة ، ما هو إلا تبديل للكلم عن مواضعه ، وتحريف لكلام الله عن معناه ، من حيث يدري القاريءُ أو لا يدري ، فنظائر الضاد والظاء كثيرة ، مختلفة المعاني واستخدام إحداها مكان الأخرى إمَّا أنه لا يؤدي المرادَ بل لعله يوصل إلى معنىً معاكس ، أو أنه لا يعطي معنىً البتًّة.
والجهل بهذه النظائر ليس بعذر لمن يحرف كتاب الله العزيز ، بل الجهل حجة على صاحبه ، وما الكلفة في إخراج الحروف من مخارجها الصحيحة وقراءة الكلمات كما هي في كتاب الله من غير تبديل؟! أم أننا وجدنا آباءَنا على أمة فنحن على آثارهم سائرون ، ولا نقبل قول من يصحح ما نحن عليه ، فهؤلاء هم علماؤُنا الأخيار ، قد أنكروا هذا الفعل القبيح ، واللحن الشائن ، ومن أمثلة هؤلاء العلماء ، بل وفي مقدمتهم الإمام نور الدين السالمي عليه شآبيب الرحمة والرضوان في معارجه ، ثم من بعده عالم الشعراء وشاعر العلماء أبو مسلم الرواحي في نثاره فلماذا لا نصغي لقولهم ، ولا نصحح مسارنا بنصحهم؟! إسمع إلى أبي مسلم حيث يقول في الجزء الأول من نثار الجوهر صفحة (491): "... فاعلم أنَّ الفرق بين الضاد المعجمة والظاء المشالة في القراءة واجب ، وإخراج أحدهما من مخرج الثاني لحن فتجنَّبه في الصلاة وفي القراءة مطلقا ، لأنَّ القراءة سُنَّة مُتَّبَعة ، وعدم الفرق بين هذين الحرفين كعدم الفرق بين سائر الحروف المشترِكة في بعض الصفات ..." ، وبعد ذلك شرع في الردِّ - رحمه الله - على ما جاء في المصباح ، من أن العرب تبدل الضاد ظاء ، وعلى ما قاله الفخر الرازي ، وانفرد به عن أصحابه من كون الإشتباه بين هذين الحرفين لا يبطل الصلاة ، مستندا إلى وجهين ؛ أحدهما عسر التمييز بينهما ، والثاني عدم وقوع السؤال عن هذا في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فردَّ عليه أبو مسلم ردًّا مفصلاً ، أوْرَدَ في ذلك ردَّ نور الدين السالمي أولاً ، ثم أضاف عليه من علمه الوقاد ، حتى انبلج بذلك الردِّ صبح الحقيقة، بل وزيادة على ذلك يمكن أن يضاف أنَّ في إستبدال الظاء بالضاد تضييعاً لقراءات متواترة في القرآن الكريم ، ومثال ذلك قوله تعالى في سورة التكوير: {وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِضَنِيْنٍ} ]التكوير 24 [ فابن كثير المكي ، وأبو عمرو ابن العلاء البصري ، وعلي بن حمزة الكسائي الكوفي يقرأون هنا {بِظَنِيْنٍ} وباقي القراء بالضاد ، فانظر إلى من قرأ {بِظَنِيْنٍ} وهو يريد {بِضَنِيْنٍ} ألم تَضِع عليه قراءة كان يريد معناها؟!
وسوف أورِد هنا أمثلة من كتاب الله تريك خطر هذا الإستبدال:

ضال وظال

فأما الضالّ فاسم فاعل من ضَلَّ يَضِلُّ ويضَلُّ ضَلالاً وضَلالَةً أي جار عن الدِّين أو الحقِّ أو الطريق ، وتعني كذلك النسيان في قولك قد ضللت هذا أي نسيته ومنه قوله تعالى: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} ]الشعراء 20 [ أي الناسين على قول ، والضالُّ كذلك الذي أُهدر دمه فلم يُثأَر له.
وأمَّا الظالُّ فهي من ظَلَّ يَظَلُّ فهو ظالٌّ إذا عمل العمل نهاراً ، يقال: ظَلَّ فلانٌ نهارَه صائما وبات ليلَه قائما.
فأنت ترى أنْ لا لقاء بين الكلمتين في المعنى فأين الذي يقرأ {الضَّالِّينَ} في القرآن بالظاء المشالة من المعنى المراد؟ وقد وردت تصريفات أخرى للفعل (ضلَّ) في القرآن الكريم كقوله تعالى: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً} ولا يؤدي فيها حرف الظاء المعنى المراد كذلك.

حضَّ وحظَّ

فأمَّا الحضُّ بالضاد فهو الحثُّ ، قال تعالى: {وَلاَ يَحُضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِيْنِ} ]الفجر 7 [.
وأمَّا الحظُّ بالظاء فهو الجدُّ ، وهو ما تسميه العوامُّ البختَ. يقال: فلانٌ ذو حظٍّ ، وهو كذلك النصيب ، قال تعالى: {فَلَلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} ]النساء 176 و 11 من دون الفاء[.

الضِّرار والظِّرار

فأمَّا الضِّرار بالضاد فهو المُضارَّة ، وهو من الإعتداء وإلحاق الضَّرر. قال تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوْا} ]البقرة 231 [ وأمَّا الظِّرارُ بالظاء فجمع ظُرَر ، بضمِّ الظاء وفتح الراء ، وهو حَجَرٌ له حَدٌّ كحدِّ السكين ، ومنه المثل السائر: (أَظرِّي فإنَّكِ فاعلة). ]المستقصى 1/221 [
فبالله عليك أليس محرِّفاً من قرأ الآية المذكورة بالظاء المشالة مكان الضاد المعجمة ، وأعطى الآية معنىً سخيفاً لا تحتمله ، أليس مثله مثل من يُبدل القاف غين فيقرأ: (إنا أنزلناه في ليلة الغدر) أستغفر الله من كلِّ هذا التحريف ، مع أنَّ الأخير لعله له عذر ثِقَل اللسان ، ولكن الأول ليس له عذر إلاَّ العادة.

الغَيْضُ والغَيْظُ

فأمَّا الغَيْضُ بالضاد فمصدر غاضَ الماءُ يغِيض غَيضاً ، إذا قلَّ ونَضَبَ ، ومنه قوله تعالى: {وَغِيْضَ المَاءُ} ]هود 44 [. وأمَّا الغيظ بالظاء فمصدر غاظه غيظاً إذا أغضبه ، قال تعالى: {وَالكَاظِمِيْنَ الغَيْظَ} ]آل عمران 134 [.

الفَضُّ والفَظُّ

فأمَّا الفَضُّ بالضاء فمصدر فَضَّ الشيءَ فضاًّ ، إذا كَسَرَهُ وفَرَّقَه ، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا إِنْفَضُّوا إِلَيْهَا} ]الجمعة 11 [.
وأمَّا الفظُّ ، فهو الغليظ القلب المتجهم ، قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيْظَ القَلْبِ لاَنْفَضُّوْا مِنْ حَوْلِكَ} ]آل عمران 159 [. والفظُّ أيضا معناه الكرش الذي تعتصره العرب في المفاوز عند الحاجة إليه ، قال مالك بن نويرة:

كأن لهم إذ يعصرون فظوظَها بدجلةَ أو فيضِ الأُبُلَّةِ مَوْرِدُ.

الفَيْضُ والفَيْظُ

فأمَّا الفيض بالضاد فمصدر فاض الماء يفيض فيضا ، إذا زاد زيادة كثيرة وخرج عن مستقره ، وكذلك فاض الدمعُ إذا خرج من الجفون ، قال تعالى: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيْضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً} ]التوبة 92 [. وأمَّا الفيظ بالظاء فمصدر فاظ يفيظُ فيظا: إذا مات ، وفي الحديث (فاظ وإله بني إسرائيل) ]النهاية 3/485 [ وقال رؤبة بن العجاج:

لا يدفنون منهمُ مَنْ فاظا

الناضِرُ والناظِرُ

فأمَّا النَّاضر بالضاد فاسم فاعل من نَضَرَ اللهُ الشيءَ إذا نَعَّمَهُ وحَسَّنَه فهو ناضر ، قال تعالى: {وُجُوْهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} ]القيامة 22 [.
وأمَّا النَّاظر بالظاء فهو إسم فاعل من نَظَرَ ينظُر نَظَراً فهو ناظر وهو المتأمِّل بالعين أو الفكر أو المنتظر المترقب لحدوث شيءٍ ما ومنه قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ]القيامة 23 [ وقوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُوْنَ} ]النمل 35 [ أي منتظرة.

ففي هذه الأمثلة من النظائر - كما أحسب - كفاية لأَن يُشَدِّدَ النكرانَ علماءُ زماننا - جزاهم الله خيرا - على من يخلط بين الضاد والظاء ولا يميِّز بينهما في قراءته لكتاب الله الكريم ، ولقد إستثقل هذا القولَ بعضُ الإخوة ممن قرأ ما جمعتُ من كتب أهل اللغة والفقه - والجَمْعُ هو كلُّ حظي في ما نقلت - مدَّعين بأن هذا هو ضربٌ من التَّفَيْقُهِ - على حدِّ تعبيرهم - وَتَزَمُّتٌ بإضافة مبطلٍ من مبطلات الصلاة، مع أنِّي أَقَلُّ من الحُكم بمثل ذلك ، ولكنْ إن أرادوا فهذا هو قول نثار الجوهر (ج1 ص 493): "والخلاف الذي ذكره المصنف - رحمه الله - يعني الإمام السالمي - في غير الفاتحة ، وأمَّا فيها فلا خلاف في النقض بتبديل الضاد ظاءً فاعلمه ، فإنَّ الصلاة لا تتم إلا بتمام الفاتحة ، وتبديل حرف من حروفها بغَيره يُغاير التمام بل يغاير الجواز" ، ولكنني فوق هذا كلِّه ، أتقدم بالتماس إلى سماحة مفتي عام السلطنة ، بأن يبحث لنا عن مخرج - إن كان ثمَّ هنالك - بجواز الصلاة خلف صاحب هذا التحوير في الحروف ، بسبب أنَّ البليَّة منتشرة في عرض البلاد وطولها ، إلى أن تقوم الحجَّةُ على كلِّ النّاس بمعرفة الصَّواب وذلك بقيام العلماء بدورهم في هذا المجال ، فهل لنا من مخرج؟

وختاماً فإنَّنا أضَنُّ بلغتنا عن الظنون ، وإن كان أعداؤها يعدون لها ريب المنون ، وإن عظَّها الزمان فسيبقى رجال يعضون عليها بالنواجذ - إن شاء الله -.
نسأل الله أن يُظلنا تحت عرشه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه ، وأن يحفظنا من الضلال ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

مســــلمٌ من أهل عُمــــان

المصادر
نثار الجوهر لناصر بن سالم الرواحي
الإعتماد في نظائر الظاء والضاد لابن مالك
التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو الداني