التنبيه الثاني: في الطريق لتهذيب الأطفال

إنتقل إلى

 

وذلك أن الصبي أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة خالية عن كل نقش ومائل إلى كل ما يمال به إليه فإن عُوِّدَ الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة ويشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب وإن عُوِّدَ الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيم عليه والولي له لتضييعهم أمانتهم وتركهم أمر ربهم في قول عز من قائل: {قُوْا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيْكُمْ نَاراً}. ومهما كان الأب يصونه عن نار الآخرة أو لا وصايته أن يؤدبه ويهديه ويعلمه محاسن الأخلاق ويعلمه من القرآن ولا يعوده التنعم ولا يحبب إليه الزينة وأسباب الرفاهية فيضيع عمره في طلبها إذا كبر فيهلك هلاك الأبد بل ينبغي أن يراقبه من أول مرة فلا يستعمل في حضانته وإرضاعه إلا إمرأة صالحة متدينة تأكل الحلال فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه فإذا وقع عليه نشوء الصبى إنعجنت طينته من الخبث فيميل طبعه إلى ما يناسب الخبائث.
ومهما رأى فيه من مخايل التميز فينبغي أن يحسن مراقبته وأول ذلك ظهور أوائل الحياء فإنه إذا كان يحتشم ويستحي ويترك بعض الأفعال فليس ذلك إلا لإشراف نور العقل عليه حتى يرى بعض الأشياء قبيحا ومخالفا للبعض فصار يستحي من شيء دون شيء وهذه هدية من الله تعالى إليه وبشارة تدل على إعتدال الأخلاق وصفاء القلب وهو مبشر بكمال العقل عند البلوغ فالصبي المستحي لا ينبغي أن يهمل بل يستعان على تأديبه بحيائه وتميزه ثم يشغل في المكتب فيتعلم القرآن وأحاديث الأخيار وحكايات الأبرار وأحوالهم لينغرس في قلبه حب الصالحون ويمنع من الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله ومن مخالطة الأدباء الذين يزعمون أن ذلك من الظرف ورقة الطبع فإن ذلك من لغو الكلام وفحشه ومن اللعن والسب ومن مخالطة من يجري على لسانه شيء من ذلك فإن ذلك يسري لا محالة من قرناء السوء ومهما بلغ سن التمييز فينبغي أن لا يسامح في ترك الطهارة والصلاة ويأمر بالصوم في بعض أيام رمضان ويجنب لبس الحرير والديباج والذهب ويعلم كل ما يحتاج إليه من حدود الشرع ويخوف من السرقة وأكل الحرام ومن الخيانة والكذب والفحش وكل ما يغلب على الصبيان فإذا وقع نشؤه كذلك في الصبا فمهما قارب البلوغ أمكن أن يعرف أسرار هذه الأمور فيذكر له أن الأطعمة أدوية وإنما المقصود منها أن يقوى الإنسان بها على طاعة الله عز وجل وأن الدنيا كلها لا أصل لها إذ لا بقاء لها وأن الموت يقطع نعيمها وإنها دار ممر لا دار مقر والآخرة مقر لا دار ممر وأن الموت منتظر في كل ساعة وأن الكيس العاقل من تزود من الدنيا للآخرة حتى تعظم درجته عند الله تعالى ويتسع نعيمه في الجنان.
فإذا كان النشؤ صالحا كان هذا الكلام عند البلوغ واقفا مؤثرا ناجحا يثبت في قلبه كما يثبت النقش في الحجر وإن وقع النشؤ بخلاف ذلك حتى ألف الصبي اللعب والفحش والوقاحة وشره الطعام واللباس والتزين والتفاخر بناء قلبه عن قبول الحق بنو الحائط عن التراب اليابس وأوائل الأمور ينبغي أن تراعى فإن الصبي كجوهره خلق قابلا للخير والشر جميعا وإنما أبواه يميلان به إلى أحد الجانبين قال صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" أ.هـ. وهو كلام إختصره النبهاني من كلام الغزالي وتصرفت في بعضه قال النبهاني: "فانظر كيف التعليم منع أولاد المسلمين في حين تأديبهم في صغرهم الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله ومخالطة أهلها خوفا على قلوبهم من بذر الفساد فكيف تراه يقول فيمن يدخل ولده مدارس النصارى ويخالطونهم ويتعلمون منهم ويعيشون معهم ليلا ونهارا عدة سنين ما كان يخطر في بال أحد أنه يأتي على المسلمين زمان يقع فيه من بعضهم مثل هذا الأمر الشنيع والفعل الفضيع وإذ قد وقع ذلك الآن في كثير من البلدان وجب علينا الإنكار وتميزه سبيل الجنة من النار" أ.هـ. كلامه ببعض حذف وتصرف وبه يتم ما تيسر كتابته في هذه الصفحات وأسال الله أن يتم نفعه وأن يكون لي نورا بين يدي يوم النشور ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكان الفراغ من تسويده عشية السبت لست بقين من شهر الله الحرام سنة 1328هـ.