الفصل الخامس:  السبب الذي دخل النصارى بلاد الإسلام

إنتقل إلى

 

ذكر المعترض ما يقتضي سبب ذلك فرار بقية أهل الدين بدينهم وعميت بصيرته عن موجب ذلك وما علم أن السبب الأعظم انخماد همم الملوك وضلالهم عن السبيل واتباعهم الشهوات وتعطيلهم الحدود وتضييعهم الأحكام وتقديم السياسة النصرانية على السياسة الشرعية واختيارهم الهوى على الحق والظلم على العدل والدنيا على الآخرة فقال ما نصه: "وأما التداخل عند المشركين كتداخل الزنجباريين لا يقدرون أن يمتنعوا لأن أزمة أمور زنجبار بأيدي المشركين ودواعي الإمتحان دائرة في كل حين وما ذلك إلا لامتناع الفضلاء من تولية الحكم عند هذه الدولة حتى انقاد الأمر إليهم وأحاجوا الناس إلى التداخل زعما منهم أنه غير جائز فهذا الآن الواقع علينا بسبب التخاذل".
وجوابه لو تدري ما قلت في هذه الكلمات لأكثرت الزفرات وأطلت العبرات كيف تقول زعما منهم أنه غير جائز كأنك المكذب بذلك ونصوص الكتاب والسنة القاطعات تمنعنا من معاونتهم على ظلمهم ولو بأقل قليل والجهل آفة ولولا أن الكلام يخرج بنا عن المقصود لبسطنا الأدلة على منع الظلم والمعاونة عليه وحسبك الآن قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوْا عَلَىْ البِرِّ وَالتَّقْوَىْ وَلاَ تَعَاوَنُوْا عَلَىْ الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ} وقد لمت أنت الفضلاء بما أثنى الله عليهم في كتابه العزيز ودعوتهم إلى فعل ذم الله الداخل فيه فهذا مؤمن آل فرعون بسط الله الثناء عليه في سورة المؤمن بما لم يذكره لأحد من الأولياء حتى نسبت السورة إليه من طول الثناء عليه وهو فرد واحد قد خالف فرعون وقومه ولم يتبعهم في طريقتهم وفوض أمره إلى الله فوقاه الله سيئات ما مكروا وذلك الجمع الكثير من أتباع فرعون قد ذمهم الله على متابعته بأقبح ذم في قوله عز وجل: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوْهُ إِنَّهُمْ كَانُوْا قَوْمًا فَاسِقِيْنَ}. وذلك الرجل هو صاحب يس رجل مفرد جاء من أقصا المدينة يسعى إلى ذلك الجم الكثير يقول لهم {يَا قَوْمِيْ اتَّبِعُوْا المُرْسَلِيْنَ. إِتَّبِعُوْا مَنْ لاَ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُوْنَ} إلى آخر ما قص الله عنه وعن قومه وعن نجاته وعن هلاكهم وتلك الفئة من أصحاب الكهف وهم نفر قليل ربي أعلم بعدتهم خالفوا جميع قومهم وفروا عن ملكهم وذكر الله قصتهم في الكهف وأثنى عليهم ورزقهم الكرامة الدائمة والسعادة الأبدية وذكر قومهم بعكس ذلك ولو عقلت أيها المعترض المجادل عن الذين يختانون أنفسهم لعلمت العلم اليقين أن الآفة إنما جاءت من قبل هؤلاء الذين عيرت أنت هؤلاء الفضلاء النفرة عنهم فإنهم أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وتبدلوا بقراءة القرآن المزامير وبالذكر اللهو والطرب.

ولا عجب إن ثل عرش ممالك     قوائمه عود ودف ومزمر

والعجب منك كيف لم توجه العتاب إليهم وأنت تعلم أن صلاح الرعية بصلاح ملكها لأنه كالروح وهو مثل الجسد وهو كالعقل وهم كسائر الحواس، وهو كالرأس وهم كسائر الأعضاء وهو في العالم كالشمس وهم كسائر النباتات والحيوانات صلاحها منوط بوجود الشمس فحيث لا توجد الشمس لا يوجد النبات ولا الحيوانات لفرط البرودة ، وقال الحكماء: "الناس تبع لإمامهم في الخير والشر"، وقال أبو حازم الأعرج: "الإمام سوق فما نفق عنده جلب إليه" ولما أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتاج كسرى وسواريه قال: "إن الذي أدى هذا لأمين" قال له رجل: "يا أمير المؤمنين أنت أمين الله يؤدون إليك ما أديت لله فلما رتعت رتعوا"، ومن أمثالهم في هذا قولهم: "إذا صلحت العين صلحت سواقيها".
وقال الأصمعي: "صنفان إن صلحا صلح الناس: الأمراء والفقهاء". وطلع مروان ابن الحكم على ضيف له بالفوطة فأنكر منها شيئا فقال لوكيله: "ويحك إني لأظنك تخونني" فقال: "أتظن ذلك ولا تستيقنه". قال: "وتفعل؟" قال: "نعم والله إني لأخونك وإنك لتخون أمير المؤمنين وإن أمير المؤمنين ليخون الله فلعن الله شر الثلاثة".
وكان مروان يومئذ عاملا لمعاوية على المدينة بينما المنصور في الطواف بالبيت ليلا إذ سمع قائلا يقول: "اللهم إني أشكوا إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع". فجزع المنصور فجلس بناحية من المسجد وأرسل إلى الرجل فصلى ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلم عليه بالخلافة فقال المنصور: "ما الذي سمعتك تذكر من ظهور الفساد والبغي في الأرض؟ وما الذي يحول بين الحق وأهله من الطمع؟ فوالله قد حشوت مسامعي ما أمرضني" فقال: "إن أمنتني يا أمير المؤمنين أعلمتك بالأمور من أصولها وإلا احتجرت منك واقتصرت على نفسي فلي فيها شاغل" قال: "فأنت آمن على نفسك فقل" فقال: "يا أمير المؤمنين إن الذي دخله الطمع وحال بينه وبين ما ظهر في الأرض من الفساد والبغي لأنت" فقال: "ويحك يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي والحلو والحامض عندي" قال: "وهل دخل أحدا من الطمع ما دخلك إن الله استرعاك أمر عباده وأموالهم فغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم وجعلت بينك وبينهم حجابا من الجص والآجر وأبوابا من الحديد وحراسا معهم السلاح ثم أسجنت نفسك فيها وبعثت عمالك في جبايات الأموال وجمعها وأمرت أن لا يدخل عليك أحد من الرجال إلا فلان وفلان نفرا سميتهم ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف والجائع العاري إليك ولا أحد إلا وله في هذا المال حق.
فلما رأى هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت أن لا يحجبوا دونك تجبي الأموال وتجمعها، قالوا قد خان الله فمالنا لا نخونه فأتمروا أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا ولا يخرج لك عامل إلا خونوه عندك ونفوه حتى تسقط منرلته عندك فلما انتشر ذلك عنك وعنهم عظمهم الناس وهابوهم وصانعوهم فكان أول من صانعهم عاملك بالهدايا والأموال ليقووا بها على ظلم رعيتك ثم فعل ذلك ذو المقدرة والثروة من رعيتك لينالوا ظلم من دونهم فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلما وبغيا وفسادا وصار هؤلاء القوم شركائك في سلطانك وأنت غافل.
فإن جاء متظلم حيل بينك وبينه فإن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عنه ذلك وأوقفت للناس رجلا ينظر في مظالهم فإن جاء ذلك المتظلم فبلغ بطانتك خبره سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته إليك فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكوا ويستغيث وهو يدفعه فإذا أجهد وأخرج ثم ظهرت صرخ بين يديك فيضرب ضربا مبرحا فيكون نكالا لغيره وأنت تنظر فما تنكر فما بقاء الإسلام وقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصين، فقدمتها مرة وقد أصيب ملكهم بسمعه وبكى يوما بكاءا شديدا وحثه جلساؤه على الصبر فقال أما أني لست أبكي بالبلية النازلة ولكني أبكي المظلوم يصرخ بالباب فلا أسمع صوته ثم قال أما قد ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب نادوا في الناس ألا يلبس ثوبا أحمر إلا متظلم، ثم كان يركب الفيل طرفي النهار وينظر هل يرى مظلوم.
فهذا ياأمير المؤمنين مشرك بالله بلغت رأفته بالمشركين هذا المبلغ وأنت مؤمن بالله من أهل بيت لا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك فإن كنت إنما تجمع الأموال لولدك فقد أراك الله عبرا في الطفل يسقط من بطن أمه ماله على الأرض مال وما من مال إلا دونه يد شحيحة تحويه فما يزال الله يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الله له ولست الذي تعطي بل الله تعالى يعطي من يشاء ما شاء فإن قلت إنما تجمع المال لشديد السلطان فقد أراك الله عبرا في بني أمية ما أغنى عنهم جمعهم من الذهب وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع حين أراد الله بهم ما أراد، وإن قلت إنما تجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة ما تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه يا أمير المؤمنين هل يعاقب من عصاك بأشد من القتل؟" فقال المنصور: "لا" فقال: "فكيف تصنع بالملك الذي حولك ملك الدنيا وهو لا يعاقب من عصاه بالقتل ولكن بالخلود في العذاب العظيم قد يرى ما عقد عليه قلبك وعملته جوارحك ونظر إليه بصرك واجترحته يداك ومشت إليه رجلاك هل يغني عنك ما شححت عليه من ملك الدنيا إذا نزعته من يدك ودعاك إلى الحساب؟" فبكى المنصور ثم قال: "ليتني لم أخلق ويحك كيف أحتال لنفسي؟"، فقال: "يا أمير المؤمنين إن للناس أعلام يقرعون إليهم في دينهم ويرضون بهم في دنياهم فاجعلهم بطانتك يرشدوك وشاورهم في أمورك يسددوك" قال: "قد بعثت إليهم فهربوا مني"، قال: "خافوك أن تحملهم على طريقتك ولكن إفتح بابك وسهل حجابك وانصر المظلوم واقمع الظالم وخذ الفيء والصدقات على حلها واقسمها بالحق والعدل على أهلها وأنا ضامن عنهم أن يأتوك يساعدوك على صلاح الأمة" وجاء المؤذنون فأذنوه بالصلاة فصلى وعاد إلى مجلسه وطلب الرجل فلم يوجد.