الفصل الثالث:  تعلم اللغة الأجنبية

إنتقل إلى

 

في تعلم اللغة الأجنبية وكنت قد نهيتهم عن ذلك إلا لقدر الضرورة كمترجم للملك ونحوه مخافة أن يجرهم ذلك إلى إهمال العربية رأسا وإلى إنطماس رسومها بين ظهرانيهم فيصير العربي أعجميا كما هو المشاهد من أحوال المخالطين للأعاجم وبترك العربية يتعذر فهم الكتاب والسنة فينسد عليهم باب الفهم في ذلك ويحال بينهم وبين شريعتهم المطهرة وأبوا إلا التمادي في تعلمها من إحتاج إليها ومن لم يحتج حتي استلذوا ذلك وطبعوا عليها ألسنتهم وانطبع في قلوبهم ووقعوا في المحذور وجادلوا بالباطل .
قال المعترض المجادل: "وأما تعليم اللغة الأجنبية أو تعلمها فأي شريعة تمنع ذلك إذا كان القصد نفس اللغة والكتابة إذ الضرورة داعية إليها الآن ولا سيما بهذا الطرف لأن المحاكم والمعشرات بأيديهم ولا يتوصل إلى شىء من هذه الأشياء إلى ما يطلبه الإنسان من حقوقه إلا بعد النصب وذهاب شطر ماله إذا كان لا يعرف هذه اللغة الأجنبية أو ليس كان لرسول الله صلي الله عليه وسلم مترجما يهوديا بالعبرانية ثم اختار أشخاصا من رجاله ليتعلموا تلك اللغة فلما ضبطوها إكتفى بهم أما في هذا الأمر ما يدل على الجواز إن لم نقل لوجوب تعليم هذه اللغة فحينئذ على ماذا النزاع والتشديد في غير مقام وأما ما يتوهمه البعض منا من أنه سينجر به التعليم إلى الشرك بالله فهذه أوهام لا طائل تحتها أو ليس الشماخي سعيد بن قاسم والسيد مصطفى وأضرابهما عالمين بلغة الإنجليز وفرنسا وهما أجل الأصحاب".
وجوابه أن هذا التشديد لسلامة دينكم ودنياكم وحفظ شرفكم وشرف آبائكم وصيانة لسانكم الذي هو أشرف الألسنة عن الذهاب وبذهابه يحال بينكم وبين فهم ما جاء به نبيكم عليه أفضل الصلاة والسلام وكفى بهذا مصيبة لمن عقل أين العقول معشر الرجال وقد استثنيت قدر الضرورة فالمنع واقع على ما فوقها وهو الذي يقتضيه استدلالكم الباطل . لو صح قولكم: "أو ليس كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مترجما يهوديا بالعبرانية ... الخ". وهو كلام باطل من أصله ولا نعرف من ذكره قبل كلامكم هذا والموجود أن زيد بن ثابت كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي وغيره وكانت ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب بالسريانية فأمر زيد فتعلمها كذا في أسد الغابة. وقال في السيرة الحلبية قال زيد بن ثابت: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم بالسريانية قال إني لا آمن يهود على كتابي فما مر بي نصف شهر حتى تعلمت وحذقت فيه فكنت أكتب له صلى الله عليه وسلم إليهم وأقرأ له كتبهم". فهذا شخص واحد لا أشخاص متعددة قد إكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان السريانية لا العبرانية.
وكان اللازم على مقتضى إستنباطكم من إستدلالكم الباطل أن يندفع جل الصحابة أو كلهم في تعلم لغات الأجانب الذين خالطوهم في أيام ظهورهم وأول ذلك اليهود بالمدينة والروم بالشام والفرس بالعراق والقبط بمصر وهيهات ما كان ذلك من همتهم وما كانوا يتدوالونها نقلا بالألسن الفصيحة الصحيحة فلما خافوا عليها الإعوجاج من مخالطة مثل هؤلاء الذين إندفعتم أنتم في تعلم لغاتهم أمروا بإيداعها الدفاتر بعد المبالغة في الإنكار على من حرف فهذا من سبيل من كان قبلكم من سلفكم الصالح في شرفهم العالي وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن منكم أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالفارسية فإنه يورث النفاق رواه الحاكم في مستدركه عن إبن عمر. فهذا نص يقتص من التكلم بالفارسية لمن كان يحسن التكلم بالعربية فما ظنك بمن كانت العربية سليقته ثم ينحرف عنها إلى تعلم الفارسية ويجعلها طريقته الجادة في جميع مخاطباته ولا يرجع إلى العربية إلا إضطرارا فسبيله العربية سبيل أسلافه في الفارسية فأين الفرق وهيهات الإجتماع.

عــمرك الله كيف يلتقيان

أيها المنكح الثريا ســـهيلا  

وســهيل إذا استقل يمـاني

هي شاميه إذا ما استقلت  


وقوله: "يورث النفاق" أي يكون المتكلم بها من غير ضرر سبب النفاق والعياذ بالله وذلك كله الافضاء إلى محبة أهل الفارسية أو البغض لأهل العربية وقيل إن التكلم بها من غير ضرورة بنفسه نفاق وذلك حيث أثرها على العربية وقولكم: "أو ليس الشماخي سعيد بن قاسم والسيد مصطفى وأضرابهما عالمين بلغة الإنجليز وفرنسا وهما أجل الأصحاب" إن كان المراد الشماخي العالم الموجود الآن بمصر قرين السيد مصطفى فالرجل قاسم بن سعيد لا العكس ولا أعرف حقيقته معرفتها باللغتين وهب أنهما يعرفانهما فماذا أو هل تسوغ لكم معرفتهما ما كان ممنوعا عليكم في ذلك فهم أعلم بحالهم وهذه اللغات لا نمنعها من حيث ذاتها فإن على كل لغة جيلا من الناس لا يضيق عليهم التكلم بلغتهم ويكتفي منهم بالمعاملات والإقرارات ونحوها أن يتكلموا بلغتهم حتى ذكر إسم الله على الذبيحة وإنما نمنع أمثالكم من إختيار غير لسانكم لغير ضرورة وهذا النبراس الذي اتفق على مراشده الشيخان المذكوران ينادي لصوت حزين على أصراح العربية وإيثارها سواها.
قال في العدد التاسع من "النبراس" في صفحة 79 في إستلفات ولي عهد الخليفة لدرك اللغة العربية الشريفة: "السلام عليك ورحمة الله وبعد فإنا ننصح إليك يا سيدنا رشاد أفندي أن تستجمع عنايتك وتكد بمجامع فكرتك في تحصيل اللغة العربية دون غيرها من اللغات لتتوصل بها إلى معرفة أسرار الدين وفقه معاني التنزيل فلا تحتاج في تصرفاتك إلى مترجمين خائنين لأنها نقيصة شائنة ومذلة في الدين واضحة بائنة فقد بلغنا أن العامل العظيم من الأتراك إنما هو الذي يحرف العديد من اللغات الأعجمية ولا عار عليه في جهله اللغة العربية ولذلك فإنهم لم يتذوقوا طعم الإيمان ويتلذذوا بثمرات القرآن فهم بذلك أعضاء أشداء تسامح لهم القدر في السيادة على المسلمين بلا استحقاق وتقدروا موقف العبد وأنفوا من كلمة التوحيد لأن كلمة التوحيد لا تنفع إلا بعد الإمتناع عن الشبهات والإمتناع عن الشبهات لا تنفع إلا بالورع وأهل الورع لا يأكلون إلا ما حصدوا ولا يحصدون إلا ما زرعوا من حلال ورجال لوائكم المنصور إلا من رحم ربي .
قد حركوا من نشاط البطنة وهمة الفرج على آرائك القصور وما تجاوزوا به حد الإعتدال من إرتكاب الفضائح في بيع البلاد واتخاذ عباد الله خولا ومال الله دولا وتطرق الحرص على هذا الترف في أخلاقهم ونشأ عن ذلك ما لا يمكن إجتنابه إلا بطردهم من تلك المناصب أو تحل عليهم قارعة من قوارع السماء وهم على أغفل ما يكونوا لأن الفطام عن المألوف شديد وكذلك العرب الملتفون حولكم قد يظهر أنهم نسوا العربية وأصبحوا أعجاما يسخرون منها لا يختلفون في مشاربهم وأخلاقهم عن أولئك الموصوفين فالله سائلهم طويلا.
وينقسم رجال لوائكم المنصور يا سيدنا رشاد أفندي إلى فريقين: فريق شرعي وفريق سياسي. أما الفريق الشرعي فهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أخوف ما أخاف عليكم من رجل يقول ما تقولون ويفعل ما تنكرون أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه. فأفعال هذا الفريق إنما جاءت برمتها رمدا لجفن الدين وليس لله في علمهم شىء ولهم من الوعيد ما يسبقون به عبدة الأوثان. وأما الفريق السياسي فهو الذي أساء إلى نفسه وأهمل ما يجب عليه في ضبط شأنه ومن كان لنفسه ظالما كان لغيره أظلم وقد وجدنا في سياستهم مطعنا وانتهينا إلى معرفة أسبابه وهي تفيئهم ظل النفس والهوى فطاب لهم المقام في المنازل الجسمانية والمعالم الظلمانية التي تناهت بهم إلى ما تراه الآن من الفتنة العمياء الصماء البكماء التي لا تسمع لناعق لها ولا تنساق لقائدها فلا يرجى للحق أن يطلب فيهم ضالته ولا للصواب أن يصيب نشدته فالله الله يا سيدنا رشاد أفندي في اللغة العربية التى أنتم أوليائها ولا يسدد أمركم إلا بها لأنها لغة مورثكم النيابة المقدسة ولا يصلح شأنكم إلا بها لأنها لغة القرآن والله تعالى يقول: {وَذَكِّرْ بِالقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيْدْ} فإذا خفت الوعيد يا ابن عبدالمجيد قرة عين أهل التوحيد عدلت وأنصفت المظلوم وآويت المظطهد وأغثت الملهوف وأعنت الطالب وسددت أمر المسترشد وأعطيت الفقير ورحمت الكبير واحترمت أهل الطاعة فدخلت الجنة فإذا لغتها العربية.
واعلم أن رعيتك فريقان: فريق عام أهل الشعب فهو موضوع السيف وفريق خاص أولوا التوفيق وهو موضوع القران لأن العامى يري السيف فيرتدع . والخاص يرى الحق فيتبع فإذا تعلمت العربية وعرفت غرض التنزيل وكان في علم الله تعالى أن تكون خليفة بعد أخيك الرجل لاجل الصالح أطال الله أيامه ونال الحق منه آماله تسنى للمسلمين كافة أن يطمعوا في فضلك وصدق عليك قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُوْنَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوْا وَكَانُوْا بِآيَاتِنَا يُوْقِنُوْنَ} والسلام عليك وعلى أخيك سيدنا المطاع وآل جمعكم الأخصاء ورحمة الله وأدام الله من فضله لكم العز والسيادة والشوكة والإجارة والنفوذ والسلطان مد الأزمان" هذا كلام السيد مصطفى بن إسماعيل في النبراس أوردته بأسره لما أودعه من حسن المراشد وله في "الهداية الإسلامية" كلام إستقصى فيه آفاق اللغة الأجنبية من إنجليزية وافرانساوية وإن من آفاقها تغير أخلاق المسلمين وتهاونهم بأمر الدين وتلوثهم بأخلاق هؤلاء المردة الشياطين واسترسالهم مع شنيع القبائح وقبيح الفضائح واستيلاء أعدائهم عليهم وتمكنهم من قلوبهم وأجسامهم ولا ينبؤك مثل خبير فإن أحببت الإطلاع على آفات الأوقات من هذه اللغات وغيرها من التعليمات والمكائد التى نصبها للمسلمين أعداء الدين فعليك بقراءة "الهداية الإسلامية" من أولها إلى آخرها تجد كل الصيد في جوف الفراء وكذلك ينبغي الإطلاع على مقاصد النبراس والإلتفات إلى مراشده فإنها النصائح البليغة والعضات الكاملة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.