الفصل الأول:  التحذير من مدارس النصارى

إنتقل إلى

 

قال المعترض : "أما الداخل في مدارس النصارى معلما كان أو متعلما فأوضح لك حالة المعلم حسب المشاهدة فالمعلم يلقي في أذهان المتعلمين صغارا كانوا أو كبارا، التوحيد وشغله والطهارات وكيفياتها والصلوات ومعانيها والكتابة العربية والإنشاء العربي والحساب وقراءة القرآن على الوجه المرتضى فإن كان هذا لا يجوز المسير إلى تلقينه ولا تشد الرحال إليه فأقيموا الأدلة والبراهين الساطعة أجيبونا بأسرع حال.
أم الأحسن ترك أولاد المسلمين بأيدي النصارى فقط وأي فائدة في قوله تعالى {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىْ تَنْفَعُ المُؤْمِنِيْنَ} وقوله {وَلَكِنْ ذِكْرَىْ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُوْنَ} أم هذا خاص به - صلى الله عليه وسلم - دون غيره.
فالمدرسة المشار إليها واضعها إسلامي، والنصارى فيها عملة واحدة، العملة سب النبي - صلى الله عليه وسلم - فبلغ السيد على بن حمود فحالا أرسل إلى الناظر مدير المدرسة فقرعه فأجابه إن قامت البينة على الساب ليعزرنه. ولم نقم عليه بينة ومع ذلك فقد هدد. فحينئذ هل الأوجب صبغ الأولاد صبغة دينية أم يتركون وجهلهم إذا كان لا بد من تعليم هذه اللغة الأجنبية". هذا كلامه وهو ينقض بعضه بعضا.

وجوابــــــــه

إنك قد تركت الأهم الأعظم من مقصود القوم وهو محض نظرهم وغاية أملهم وذلك أن المعلم النصراني يختلي بهؤلاء الصبيان من أولاد المسلمين وغيرهم في وقت مخصوص وساعة معروفة فيلقنهم ما يشاء من الكفريات التي تسلخهم من فطرة الإسلام رأسا ومن نفحات تلك المكفرات ما ذكرته عن ذلك النصراني من سب سيد الأنبياء - عليه أفضل الصلاة والسلام -، وما ذكرته من تعليم التوحيد وما بعده من الخصال فهو ذريعة إلى تدريجكم الى المهاوي وإلقائكم في المهالك ولابد للفخ من حب يقع عليه الطائر فلو جاهروكم بمرادهم وكشفوا لكم أغراضهم لقفت شعوركم واقشعرت جلودكم واشمأزت قلوبكم ونفرتم عنهم كل نفرة. لكن القوم أدرى بمصائدكم وأعرف بمكائدكم فهم أشد من الأفعى لينا وعداوة وأروغ من الثعلب وأخدع من السراب ولهم في المكر أبواب يعجز عنها الشيطان فهم نظير الشاعر المجاهر بقوله:

وكنت امرأ من جند إبليس فارتقى ... بي الأمر حتى صار إبليس من جندي
فلو مـات قبلي كـنت أحسـن بعـده ... طـرائق فســق ليس يحسـنها بعــــدي

وكون المدرسة من بناء المسلمين لا يهون الأمر بل يعظمه، فإنه خفف عنهم مؤونة البناء وزادهم إستطالة على المسلمين حيث ورثوا أرضهم وديارهم وأموالهم عكس الحال الذي عليه أسلافهم مع أسلافنا وذلك بما كسبت أيديكم. الله المستعان ما مثلنا عند هؤلاء النصارى إلا مثل بني إسرائيل عند عدوهم بختنصر. عافيتك اللهم وعفوك وتأييدك أغث حرمة الإسلام يا غياث المستغيثين ومن المعلوم أن العبرة في المدارس بأهلها المتولين بأمرها القائمين بلوازمها من تدريس وغيره دون الباني الذي أسسها إذ البناء لا يؤثر في المطلوب وإنما يؤثر من تصدى فيه لذلك والجهل بما تفيده مدارس النصارى من كفرياتهم أولى وأسلم من العلم والإطلاع عليه فإن الجاهل به سليم العقل صحيح الإعتقاد كامل التوحيد كما عليه الحال في عوام المسلمين والعالم به والمطلع ربما يفضي به الحال إلى الشرك بعد الإسلام وهو لا يدري وربما أورثه الشك في عقيدته والطعن في سلفه وربما أورثه موالاة أعداء الله ومعاداة أولياء الله فيكون حكمه حكم من تولى لقوله تعالى {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} ويحشر معهم يوم القيامة للحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من أحب قوما حشره الله في زمرتهم" رواه الطبراني والضياء عن أبي قرصافة.
وقد تنبه علماء الملة الإسلامية على مكائد النصارى ومطالبهم من هذه المدارس فنبهوا عليها الناس وأزالوا عنهم الإلتباس وحذروهم من الوقوع في شرورها. وألف في ذلك يوسف بن إسماعيل النبهاني تأليفا سماه "إرشاد الحيارى في تحذير المسلمين من مدارس النصارى"، قال في الفصل الثالث منه ما نصه:
"وانظر أيها المسلم العاقل رحمك الله وأرشدك إلى ما فيه رضاه الى اجتهاد الدول الإفرنجية في فتح المدارس في بلاد الإسلام وإنفاقهم عليها النفقات الكثيرة على ممر الشهور والأعوام واعتناءهم بشئونها الإعتناء التام. أتراهم يا أخي يفعلون ذلك شفقة منهم على إبنك المسلم الذي ليس من ملتهم ولا من دولتهم وحرصا على نجاحه. كلا والله لم يفعلوا ذلك إلا لمقاصد مهمة وفوائد لهم كثيرة جمة تقابل نفقاتهم وأتعابهم أضعافا مضاعفة وهي كلها عليك وعلى إبنك وعلى دينك وأهل ملتك دواهي عظمى ومصائب كبرى يعلم ذلك جميع العقلاء ولا يخشى إلا على الجهلة الأغبياء.
فمن فوائدهم أنهم يخرجون هؤلاء الصبيان الذين يتعلمون في مدارسهم من دين الإسلام إخراجا حقيقيا بقلوبهم وإن بقوا في الظاهر مسلمين ويستجلبون محبتهم لهم محبة ممتزجة بلحمهم ودمهم ينشئون عليها ويعيشون عليها وذلك بتعلمهم لغاتهم وعوائدهم وكتبهم وأحوال مشاهيرهم وتراجمهم يرويها لهم المعلمون بأجمل الروايات وفي ضمن ذلك يذمون لهم عقائد الإسلام ومشاهير المسلمين وأئمة الدين حتى ربما يتجاوزون إلى سيد المرسلين وحبيب رب العالمين - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين -.
وتتكرر هذه الأمور على سمع الصبي المسلم في عدة سنين فلا يخرج من المدرسة إلا وقد تجرد بالكلية من دينه وحميته الإسلامية وصارت تلك الدولة الممدة للمدرسة التي تعلم فيها أحب إليه من دولته وجنسيتها أحب إليه من جنسيته، معتقدا فيها وفي رجالها الكمال وهو لم يتعلم شيئا من دين الإسلام وسيرة نبيه محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام - ومناقب أصحابه الهداة المهديين وفضائل أئمة دينه المبين وأحوال
خلفاءه الراشدين ومن بعدهم من السلاطين والأمراء العادلين. بل روي له عنهم شياطين أولئك المعلمين عكس أوصافهم الجميلة ومناقبهم الجليلة فاعتقد فيهم خلاف الكمال الذي اعتقده وعلى خلاف الحقيقة في أعداء دينه ودولته وهؤلاء التلاميذ يكبرون ويعيشون في الظاهر من جملة المسلمين وفي الحقيقة هم أعداء لله والدين وقد أشربت قلوبهم الزندقة والضلال المبين وترى الواحد منهم لا يجد خلوة مع من يشاكله في ضلاله وسوء حاله إلا ويتذاكر معه الإعتراضات على دين الإسلام وعوائد المسلمين ويمدحون تلك الدولة صاحبة المدرسة التي كملوا فيها دروس الضلال وتجردوا من الدين والكمال ولا يزال يخرج من هؤلاء الزنادقة في كل سنة من هذه المدارس النصرانية عدد كثير فيجتمع منهم في عدة سنين الجم الغفير جلهم أو كلهم على هذا الحال قد جعلوا الحق ورائهم ظهريا وما بعد الحق إلا الضلال.
ومما يؤيد ما قلته من مقاصد الافرنج في فتح هذه المدارس ما ذكره محمد أفندي طلعت المصري في أواخر كتابه "تربية المرأة" نقلا عن مجلة "العالمين" لأحد مشاهير كتاب الإفرنج بين فيها ما يبذل قومه من المساعي والأموال في سبيل تعليم النصارى في الشرق وغرس محبة دولته في أفئدتهم ليكونوا لها مصانع وأخرابا، ثم قال ومع ذلك فهذه المساعي لم تنتج تمام الغاية المقصودة منها لتباين الطوائف النصرانية فمن الضروري إذا جمع شتات هذه الفرق حتى لا يعاكس بعضها بعضا ومتى صاروا فرقة واحدة تمكنوا من مقاومة المسلمين والإعتداء عليهم.
وفي كلامه على المدارس النصرانية التي اتخذوها سبيلا إلى غاياتهم المنكرة سطر به القلم فأظهر ما تكنه صدور القوم من العداوة والبغضاء لدين الله تعالى قائلا: "إن من الواجب على الأمم النصرانية أن تعاكس الإسلام في كل طريق وتحارب أهله بكل سلاح" ثم رأى أن "مقاومة الإسلام بالقوة لا تزيده إلا انتشارا وأن الواسطة الفعالة لهدم أركان الاسلام وتقويض بنيانه على ما قال هي تربية بنية في المدارس النصرانية وإلقاء بذور الشك في قلوبهم من عهد النشأة فتفسد عقائدهم الإسلامية من حيث لا يشعرون وإن لم تنصر منهم يصيرون لا مسلمين ولا نصارى مذبذبين بين ذلك".
قال: "ومثال هؤلاء يكونون بلا ارتياب أضر على الإسلام وبلاده مما إذا اعتنقوا الديانة النصرانية وتظاهروا بها". ولما انتقل الى ذكر تربية بنات المسلمين في مدارس الراهبات، إدعى "لحصولنا على حقيقة القصد ووصولنا الى نفس الغاية التي ورائها نسعى. بل أقول إن تربية البنات بهذه الكيفية هي التربية الوحيدة للقضاء على الإسلام من أيدي أهله. ثم ذكر ما يترتب على دخول مدارسهم من تغيير أخلاق المرأة المسلمة حتى تتغلب على زوجها". ثم قال: "ومتى تغلبت المرأة هكذا تغير نظام العائلة بالمرأة وأصبح الرجل في قبضة تصرفها فتؤثر في عقيدته وتبعده عن الإسلام وتربي أولادها على غير دين أبيهم وفي اليوم الذي تغذي فيه الأم أولادها بلبان هذه التربية تكون قد تغلبت على الإسلام نفسه فتلك هي أقرب الطرق وأنجح الوسائل لمحاربة الإسلام بأهله دون جلبة ولا ضوضاء وهي لا شك أدعى لنوال المأرب وبلوغ المرام فليس لنا إلا إتباعها أما السعي جهارا في محاربة المسلم فإنه يوقض عوامل التعصب الكامنة في نفسه الساكنة بين جوانحه فلا يمكن تذليله وهذا ليس من الحرم في شيء" إنتهى كلام الكاتب المذكور قال بعده محمد أفندي طلعت هذه نفثات من صدور أكتفى في الإشارة إليها دون التعليق عليها وأرجوا أن تكون عبرة للآباء وذكرى للأمهات والأبناء. إنتهى. قال النبهاني: "فليعتبر العاقلون إنا لله وإنا إليه راجعون."
وقال في الفصل العشرين: "من هذه المدارس مدارس مخصوصة بالإناث إفتتحتها بعض طوئف النصارى من الإفرنج وخصوصا البروتستانت في البلاد الإسلامية وصاروا يجلبون لها بنات المسلمين بكل حيلة ووسيلة ويحسنون إليهن بأنواع الإحسان ولا سيما بنات الفقراء فيكسونهن ويعطوهن الدراهم والدقيق ونحو ذلك فامتلأت مدارسهم من البنات وهم يعلمونهن فيها أحكام دين النصارى فلا تخرج البنت بعد إنتهاء مدة المدرسة إلا وهي نصرانية أو زنديقة لا دين لها ولم يبق في قلبها من العقائد الإسلامية بشيء، لأنها حينما دخلت إلى المدرسة كانت صغيرة غير عارفة بأحكام الدين وهكذا تعيش بعد خروجها من المدرسة وتربي أولادها وهي بحسب الظاهر مسلمة وفي الحقيقة لا دين لها ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم." انتهى كلامه.

فهذه حقيقة مدارسهم وتلك غاية مطالبهم.

حالـــه حـــيث انقــلب

والخصـم لا يـخفى عليكم  

إنـــه الخــــل المحــــب

وأتـــى يخادعـــكم فقــلتم  

بمكائـــد لـــم تــحتسب

بتـــم وبـــات ينــوشــكم  

تــحت الليــالي والحجب

شـــعواء دس إليكـــم  

لــم يخشــه مــكر وقــب

مــن هــم أن يصطـاد من  

الأوائـــل تـــكتب

أيـــبركم ولديـــه أخبـــار  

هشيمـــا محتـــطب

كـم وقعة تركت جماجمهم  

عبيـــدا لـــلعرب

كم عرصة تركت ملوكهم  

غنـــائم تـــنتهب

كم غزوة تركت ذخائرهم  

أو صفـــاء مرتـــقب

أيــــكون مـــع هــذا وداد  

ولـه الأمــور كمــا يحب

أيــــبر خـــصم خصمـــه  

إلا الكتــائب والكتـــب

مـــا خـــلفت أسلافـــكم  

مـــن المعـــالي مــــقترب

وسياســــة تـــذر البعيـــد  

الخصــم رعبـا مضـطرب

وبسالـــة يـــهتز منهــــا  

والمكـر مـا كـان السبـب

لا بالخـــدائع حــربهم  

طيـــران السحــــب

لكنــه ضــرب يـطير الهـام  

مثـــل أوراق تــجب

وتـرى الأكـف بـه تساقط  

مثــل بــرق مــن كتــب

وتــرى المهنـد فيــه يــلمع  

كرمـــال الكثـــب

مــع قلـة مـنهم وخصمهم  

بهــم مــن العليــا طــلب

فغـــدوا نجومـــا يهتـــدي  


قال النبهاني في الفصل الرابع عشر من إرشاده: "ماهي يا ترى الفوائد التي حصلها إبنك أيها المسلم في تلك المدارس النصرانية في مقابلة تضييعه دينه وشرفه وحميته وغيرته على ملته ودولته وبعد صيرورته بقلبه عدوا لإخوانه المسلمين وأولياءه الموحدين بل عدوا لآبائه وأجداده الذين مضوا ناجين حائزين لشرف هذا الدين كما صار صديقا محبا لأعداء دينه وملته وجنسيته ودولته ينشر مناقبهم ويستر مثالبهم ويحسن قبائحهم ويقدم على مصالح ملته ودولته مصالحهم فما الفائدة التي حصلها في مقابلة ذلك إلا إحدى اللغات الإفرنجية وشيئا قليلا من مباديء العلوم التي عمله بها لم يخرجه عن كونه جاهلا مع إمكان تعلمها وأكثر منها بإتقان وسلامة إيمانه في مدارس المسلمين.
وما مثلك أيها الأب الجاهل في إضاعتك دين إبنك وشرفه واستعواضه عنه بما استعوضه مما ذكر إلا كمن أضاع أعظم الجواهر نفاسة وقيمة حتى استفاد عوضها فلوسا قليلة، أترى ذلك يعد عاقلا؟ كلا والله بل هو مجنون قد ابتلي بأعظم بلاء، ومجذوم أصيب بأقبح داء. بل ما فقده أعظم من الأرض والسماء وما وجده أقل من الذر والهباء ولا يخفى ذلك على كل فرد من أفراد المسلمين العقلاء وإن خفي على أولئك الجهلة الفساق المراق الأغبياء الذين قد فعلوا بأولادهم ومهج أكبادهم في إدخالهم هذه المدارس ما لا يفعل أكثر منه الأعداء بالأعداء."
وقال في الفصل الخامس عشر: "أيها المسلم ماذا رأيت من الخير على من تعلم اللغات الإفرنجية وعلومهم الدنيوية حتى خاطرت بدينك ودين ولدك هذه المخاطرة العظيمة وأوقعت نفسك وابنك في هذه المواقع الوخيمة. إذا كانت اللغات الإفرنجية متكفلة بسعة الرزق وعلو المنزلة والعز والشرف في الدنيا، فلم نرى هؤلاء المعلمين الذين يتعلم منهم ولدك في المدرسة هم من أفقر الناس وأذلهم وأشقاهم وأتعبهم في معيشتهم لم يحصلوا شيئا من رفعة الجاه وعلو المنزلة والعز والشرف في دنياهم مع كونهم ماهرين في هذه اللغات وولدك إنما يأخذ بعض ما عندهم منها فلم ينجح ولدك في دنياه بالقليل الذي يأخذه منهم ويتلقاه عنهم.
وهم لم ينجحوا بالكثير الذي أفنوا في تعلمه أعمارهم غاية ما حصلوه من فوائد ذلك أنهم صاروا معلمين في المدارس يستغلون طول النهار بمعاشات قليلة لا تكفيهم مع عيالهم إلا بقدر الضرورة وخير من معيشتهم وأوسع وأهنأ وأنفع معيشة أقل عوام الناس المتسببين بنحو البيع والشراء كما هو مشاهد وهنالك جماعة ممن يعرفون هذه اللغات في أسوإ حالة من الإحتياج لا يتيسر لهم أن يكونوا معلمين وهم من أحوج الفقراء والمساكين فلو كانت معرفة هذه اللغات متكفلة بسعة الرزق وكثرة المال لم كان هؤلاء في أضيق معيشة وأسوأ حال.
وأيضا أنظر إلى الأغنياء المسلمين تجدهم من التجار وأهل البيع والشراء والأخذ والعطاء وجلهم أو كلهم لا يعرفون هذه اللغات وهم في كمال الرفاهية ورفعة الجاه وعلو المنزلة وسعة العيش مع حفظ الدين والدنيا.
فالرزق أو الجاه لا يتوقف واحد منهما على معرفة هذه اللغات فقد ظهر أنها غير متكفلة بسعة الرزق وعلو المنزلة في الدنيا. بل الغالب عكس ذلك فيمن مهروا فيها وصرفوا أكثر أوقاتهم في تعلمها والتوسع فيها لأن هذه الأوقات الطويلة لو صرفوها فيصرفوا سبيلها في الشغل والتجارة وأسباب الكسب لربما حصلوا من المال ما استغنوا به عن أن يكونوا معلمين في المدارس وكتابا عند بعض التجار بمعاشات قليلة فاعلم ذلك وإياك أن تصد ولدك والله يتولاك."
وقال في الفصل السابع عشر: "إعلم أيها المسلم الجاهل والمجنون لا العاقل الذي خاطر بدين ولده فوضعه بهذه المدارس ... والله الذي لا إله إلا هو لو أعطيت الدنيا بحذافيرها على أن أختار لنفسي أو لولدي الكفر لا أفعل وهكذا كل مسلم. فإذا لم يكن كل ذلك لك لا يكون مسلما. وقد اخترت أنت الكفر لنفسك ولولدك مجانا على وهم أن ولدك سيحصل له شيء من المال والجاه بسبب ما يتعلمه بهذه المدارس النصرانية من اللغات الإفرنجية والعلوم الدنيوية مع أنك إذا نظرت نظر تحقيق لم تر من كل مائة شخص من هؤلاء التلاميذ خمسة أشخاص حصل لهم العز والجاه الكبير بدون هذه اللغات والعلوم.
ومع ذلك تكدرت مشاهدة بصرك وعلمك الصحيح، تصدق الشيطان وإخوانه وشرهم نفسك التي بين جنبيك فيما يسولون لك من هذه الأوهام التي أضعت بها منك ومن ولدك دين الإسلام الذي لا يعادله شيء من الدنيا وما فيها من الحكام وإذا لم يؤثر فيك أيها الجاهل هذا الكلام فلا لوم علينا إذا قلنا إنك لست من ذوي الأحلام وعلى من اتبع الهدى لا عليك السلام.."
وقال في الفصل الثامن عشر: "أيها المسلم إن إدخالك ولدك إلى هذه المدارس النصرانية أمر عظيم وبلاء جسيم لا أقدر أصف لك عظمته وجسامته ومن ذلك أنك ربما يكون بوضعك ولدك فيها على الوجه المذكور سببا لكفره وكفر ذريته من بعده ويحتمل أن يخرج منه من الذرية ألوف كثيرة فتكون أنت السبب في ضلالهم وعليك فوق إثمك مثل إثمهم أجمعين.
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "من سن سنة سيئة فعليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة" والمتسبب بالخير كفاعله فكيف ترضى لنفسك ذلك وإن تكون جد قوم كثيرين كلهم أهل كفر وضلال، ولكن لا غرابة في رضاك لهم بذلك إذا رضيت لنفسك فسلكت بها أقبح المسالك وأوردتها شر المهالك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم."
وقال في الفصل الحادي والعشرين: "أنت تعرفه أيها الانسان قبلك وما انطوى عليه من العقائد الدينية فإن كنت تعلم غير مسلم وغير معتقد عقائد الإسلام فما يأتي معك كلام لأنك زنديق منافق وقد اخترت لنفسك فأنت وهو- إذا اتبعك على ضلالك- في الدرك الأسفل من النار وبئس القرار. وإن كنت مسلما حقيقة معتقدا عقائد الإسلام وهذا هو ظننا فيك والله يهدينا ويهديك فما بالك تفرط في دين إبنك هذا التفريط العظيم بل تفرط في دين نفسك أيضا وترتع أنت وإبنك في هذا المرتع الوخيم فإن كان قد حسن لك الشيطان وأعوانه هذا الأمر القبيح وها أنا وأمثالي نوضح لك قبحه ووباله غاية التوضيح فلم تطيعهم وتعصينا ونحن ندعوك إلى الجنة وهم يدعونك إلى النار ونحن نتسبب بنجاحك وهم يتسببون لك الهلاك والدمار مع معرفتك يقينا أنَّا أعرف منك فيما يصلح الدين وما يفسده وما يقرب الإنسان من الله تعالى وما يبعده. فاللهَ اللهَ إتق الله في نفسك وولدك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم."
وقال في الفصل الخامس والعشرين: "ومن العجائب أنا نرى طوائف النصارى على الإطلاق لا يضعون أولادهم في مدارس المسلمين مهما كانت ناجحة. بل لا تضع طائفة منهم أولادها في مدارس طائفة أخرى لئلا تتغير عقائدهم. فإن كل طائفة منهم تكفر الأخرى وكذلك اليهود مع قلتهم وذلتهم فتحوا لأولادهم مدارس مخصوصة بهم لئلا يحتاجوا في تعليمهم الى وضعهم في مدارس المسلمين أو النصارى. كل ذلك من هذه الطوائف لحرصهم على أديان أولادهم.
وفي حال مشاهدتنا ذلك منهم نرى كثيرا من فساق المسلمين غير حريصين على دين أولادهم فيضعونهم في مدارس طائفة من طوائف النصارى بل وفي مدارس اليهود أيضا ويخاطرون بدينهم غاية المخاطرة ليتعلموا شيئا من اللغات الإفرنجية وبعض العلوم الدنيوية حالة كونها يمكن تعلمها في مدارس المسلمين وغير المدارس أيضا، بأن يستأجر أبو الصبي معلما مخصوصا لولده يعلمه اللغة التي يريدها.
فانظر أيها المؤمن حرص هؤلاء على أديانهم الباطلة وعدم حرصك على دينك الحق. وتعجب من نفسك إن كان ينفعك العجب وأما قولك إني لا أخشى على ولدي إتباع أديانهم لأنها ظاهرة البطلان. فهذا ياأخي من تسويلات النفس ووساوس الشيطان، لأن ولدك متى اختلت عقيدته الإسلامية فدخوله في دينهم وعدم دخوله سيان وها أنا اجتهدت في نصحك والله المستعان."
وقال في الفصل الثاني والثلاثين: "إعلم أن من جهال المسلمين من يتقرب إلى قلوب النصارى والإفرنج بوضع ولده في مدارسهم ويتودد إليهم بذلك حتى يحبوه يقولوا فلان ليس عنده عصبية دينية. فيا أيها الجاهل الفاسق لأي شيء أنت تتغير من نسبتك الى العصبية الدينية وتسترها عنهم وهم يفتخرون بها ويظهرونها بعدم وضع أولادهم في غير مدارسهم مع أن دينهم من أبطل الباطل الذي ينبغي أن يتغير به حقيقة. ودينك من أحق الحق الذي يفتخر به حقيقة أما أنت فمنسوب لدين الإسلام الذي هو خير الأديان وأفضل ما عبد به الرحمن بل هو الدين الحق الوحيد الذي ما على فضله وكماله في السابقين واللاحقين من مزيد فنحن والحمد لله لنا كل الفخر في هذه النسبة الشريفة التي لا شرف أشرف منها.

أنا ابن دارة معروفا بنسبي ... فهل بدارة يا للناس من عار

وياليت شعري ما هي العصبية الدينية؟ هل هي إلا أن تتمسك بدينك وتحل ما أحل الله وتحرم ما حرم الله وتحب في الله وتبغض في الله وهل الدين غير هذا، وأنت تعلم أن دين الإسلام قد بني على الإعلان والإظهار لا على التكتم والإستتار.

والستر دون الفاحشات فلا ... يلقاك دون الخير من ستر

أما ترى الله تعالى كيف شرع الأذان كل يوم خمس مرات وبنوا لذلك المآذن وأعلنوه غاية الإعلان وأظهروه غاية الإظهار على رؤوس الأشهاد في جميع البلاد، أتستره أنت أيها الجاهل الفاسق بتوهمك أن إظهاره عليك عار وأنك بذلك تستجلب مودة الكفار، أف لك من مسلم ساقط الهمة عديم النخوة هل سمعت قط أن عاقلا يجتهد في ستر شرفه الذي لا شرف مثله ويتغير بإعلانه بين أعدائه وإخوانه." وقال: "ومن أعجب ما سمعت في هذا الكتاب أن رجلا من أكابر المسلمين ومن المحافظين على الصلاة والصيام وأنواع العبادات ويعد من صلحاء الجهال حضر في دعوة بعض أكابر النصارى، فحينما وضعوا الخمر على المائدة وهو جالس عليها تناولها كأسا وشربه خوفا من أن يقولوا متعصب في دينه وظن بجهله أن هذا الخاطر لشيطان يكون عذرا له ولا يخل بطاعته فانظر إلى الجهل وآفاته."
وقال في الفصل الثلاثين: "إن كنت أيها المسلم تحت حكم غير المسلمين مجبورا على وضع ولدك في مدارسهم فإما أن تكون قادرا على الهجرة إلى بلاد الإسلام التي تحت حكم المسلمين أو غير قادر على الهجرة. وقد بين الله تعالى في كتابه العزيز حكم ذلك في كلتا الحالتين فقال في سورة النساء: {إِنَّ الَّذِيْنَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِيْ أَنْفُسِهِمْ قَالُوْا فِيْمَ كُنْتُمْ قَالُوْا كُنَّا مُسْتَضْعَفِيْنَ فِيْ الأَرْضِ قَالُوْا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوْا فِيْهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيْراً. إِلاَّ المُسْتَضْعَفِيْنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ الَّذِيْنَ لاَ يَسْتَطِيْعُوْنَ حِيْلَةً وَلاَ يَهْتَدُوْنَ سَبِيْلاً. فَأُوْلَئِكَ عَسَىْ اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُوْراً رَحِيْماً. وَمَنْ يُهَاجِرْ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ يَجِدْ فِيْ الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيْراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَىْ اللهِ وَرَسُوْلِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَىْ اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُوْراً رَحِيْماً}.
قال البيضاوي في تفسيره: "في الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه. قال وعن النبي- صلى الله عليه وسلم- "من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض وجبت له الجنة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام." إنتهى.
قال في محشية الشهاب الخفاجي: "والهجرة من بلاد الكفار وبلاد لا يقام فيها الإسلام واجبة كما نقله إبن العربي المالكي. قال وكذا البلاد الوثنية." انتهى.
وقال ابن حجر في فتح الباري: "واستنبط سعيد بن جبير من هذه الآية وجوب الهجرة من الأرض التي يعمل فيها بالمعصية.." انتهى.
هذا كلامه وهو طرف مما تضمنته إرشاده من المراشد البديعة والنصائح البالغة. وأنت تعلم أنه كلام مطلع على دسائس القوم خبير بأحوالهم مشفق بأمته ناصح لهم فإن سمعت مقالته وقبلت نصيحته أخذت حظا وافرا من الحزم والكيس، وإن أهملت مقالته وأطرحت نصيحته ألقيت بيدك إلى التهلكة وسلمت نفسك لعدوك وكنت من الذين وصفهم الله تعالى بأنهم {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ} فاللهَ اللهَ في نفسك ودينك ونسلك {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإِيْمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيْلِ}.
لا يقال أن كلامه في هذا الفصل الأخير يقتضي وجوب الهجرة وهي منسوخة بعد الفتح لأننا نقول إنما نسخت الهجرة بعد الفتح لما قوي الإسلام وأمن المسلمون من الفتنة في دينهم وتظاهر الناس بالإسلام وتمسكوا بعروته وتعززوا بمنيعته وتمكنوا من دعوته وكانت الهجرة قبل ذلك واجبة حيث كان المسلم يفتن في دينه بين ظهراني الكفار وهو لا يستطيع دفاعا ولا يملك إمتناعا إلا أن يعطيهم ذلك بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان فشرع الله لهم في ذلك الحال التقية لطفا منه ورحمة. وأوجب الهلاك على من شرح بالكفر صدرا فالتقية سبيل المستضعفين والهجرة سبيل المستطيعين فإذا نزلت على بعض المسلمين حالة مثل حالة من كان قبل الفتح من المسلمين وجب أن يعطوا حكم ذلك لأن الفرار بالدين واجب في كل زمان فلا طمأنينة في أمكنة الكفار وإنما تجوز عند سلامة الدين ولا تجوز عند فساده ومن إطمئن فيها مع فساد دينه وكان قد آثر الدنيا على الدين ودخل تحت الوعيد المذكور.
ومن هاهنا قال أبو يعقوب رحمه الله تعالى: "لا يجوز إتخاذ الأوطان في البلاد التي تملكها النصارى وتغلبوا على أهلها وجرت فيها أحكامهم." وذلك كله إنما يريد به الفرار بالدين فهو تحذير لهم من الإقامة بها كما توهمه بعض الجهلة أن له أن يطمئن ولكن يصلي فيها قصرا فقط. والله المستعان وبيده كل خير والعلم عند الله والسلام.